قنبلة الاسلام السياسي :
هناك قنبلة وضعها بين أيدي مجتمعات المنطقة سياقٌ للحداثة , أفضى الى تراجع أيديولوجياتها الثلاثة المتنافسة على موقع القيادة في العقود الخمسة الماضية : (الليبرالية والقومية –الاشتراكية والماركسية ), لمصلحة الاسلام السياسي :كأيديولوجيا بديلة ..
طيلة عقود التنافس هذه , ظل بقاء الدولة- ككيان سياسي قابل لتحسين شروط العيش فيه - خطاً أحمراً ..
ظلت الولاآت المناطقية والطائفية والدينية تحت السيطرة, نتيجة هيمنة هذه الايديولوجية الحديثة أو تلك ..واشتغلت (التوفيقية )- كصيغة عمل اضطرت اليها الايديولوجيات الثلاث , على تفاوت فيما بينها – كصمام أمان يفتح لتبديد الضغط كلما أوصلها الى مرحلة الصفير : صعود احد العصبيات التقليدية الى موقع السيطرة داخل الايديولوجية الحديثة المهيمنة (انظر في هذا المجال الحالتين السورية والعراقية).. فيما عدا محاولات ناجحة او فاشلة لتوسيع تخوم الدولة (الوحدة المصرية –السورية ,وحدة اليمنين ) ,حافظت الايديولوجيات الثلاث على بقاء الدولة كطنجرة تطبخ فيها العصبيات التقليدية, لانتاج عصبية وطنية جامعة ..
لايمكن فهم جنوح الحداثة الى هذاالمأزق خارج محددين استراتيجيين لها :
الأول : ترافق الحداثة كطفرة في المعنى مع إرادات الهيمنة الخارجية ( للتوسع في هذه النقطة أنصح بالعودة الى كتاب لمحمدأركون تحت هذا العنوان ).
الثاني : عسر هضم طبيعي للحداثة الوافدة , يصيب كل مجتمع متأخربفعل تأخره لاغير.
و..لعل في انقسام أدبيات الفكر السياسي , بين من يحّمل المسؤولية للخارج بمؤامراته التي لاتنتهي (التيارين القومي والماركسي ), وبين من يضعها بقضها وقضيضها على عاتق الداخل (التيار الليبرالي ), تلمس في الحد الأدنى لضفتي السيرورة في المنطقة . قد يفضي الى برامج للعمل على مقلبي الاشكالية :
1- جعل الغرب أكثر تفهما لأهمية انتصار الحداثة في مجتمعاتنا . سيما والسياق العام للصراع في خطوطه الاستراتيجية هو بين الحضارة من جهة, والبربرية من جهة ثانية .وتحت هذا العنوان ينبغي رسم خارطة طريق تبدأ بالمساعدة على حل بؤر التوتر المزمنة (والتي أصبحت منصة إطلاق للقوى غير العاقلة التي لاتخلو منها أحشاء كل المجتمعات :لا فرق بين الصومال وإفغانستان والعراق وبين يوغسلافيا ) ولاتنتهي بخطة مارشال لإعادة بناء القاعدة التحتية للحداثة في المنطقة. بل بتأمين انسياب للمؤثرات العقلية والفكرية الحديثة, غير مشوبة بنزعات الهيمنة والتعالي العرقي أو الديني ..الخ ..
إلا أن دون ذلك غياب للتنسيق والتعاون الفكري والسياسي, مع القوى والأحزاب والنقابات ومؤسسات الابحاث والدراسات ووسائل الاعلام وقادة الرأي العام في الغرب ,على تنوع حقول عملهم :أدب فكر فن ..ممن يرى في تعميق مسيرةالتحسين الجماعي للشرط البشري شرطا لبقاء الحضارة. و بما يفضي الى لجم وتقييد نزعات الهيمنة والسيطرة الغريزية التي تنبت بسرعة فوق فائض القوة التي تنتجه كل طفرة في المعنى تحدث هنا أو هناك ..
- 2- التقليب نقديا فيما بزلته ( النخبة الحديثة من وعي ) في مجرى قيادتها (من موقعي الموالات والمعارضة ) لتجربة التحديث . ذلك أن وعيا يفضي الى كل هذه الانهيارات لا تستطيع ذريعة مهما اكتسبت من مصداقية أمبريقية أن تخرجه من محاكمة نزيهة بريئا كبراءة ذئب أيوب ..
لا مفر من التقليب النقدي في اليقينيات, التي حشرت بواسطتها النسخُ المحلية من الايديولوجيات الحديثةفي خرجها , منتخباتٍ من منتجات الحداثة الوافدة .( أنظر في هذا السياق المبسطات المدرسية التي أمسكت بخناق هذا التيار الأيديولوجي أو ذاك. والتي نقلته على جناح الطائر الميمون من الفضاء الذي وسعته أسئلة التيار الفكري في مسقط رأسه , الى الحاكورة الضيقة للأجوبة التي تزيدها ضيقا ,عملية الإنتخاب والقص واللصق التي يخضع لها في بيئة متلقية , ليس لديها سوى الفقر العقلي وعدم الاعتراف به ..عينة على سبيل المثال لا الحصر من تيبيس اليانع لاستخدامه كمؤونة أيديولوجية(الكونسروة المتنوعة للماركسية :الستالينية ,البكداشية ,الماوية ,الزوتشية..الخ ) .
إلا أن هذا قد يكون وصفة للمديين المتوسط والبعيد. لإعادة الإمساك بزمام المبادرة من قبل نخب الحوامل المجتمعية للأيديولوجيات الحديثة ..أما اللحظة فتحتاج الى شيء آخر ..
يتعمق المأزق الراهن بفعل التدهور المريع للأوضاع الاقتصادية في الديمقراطيات الإجتماعية. التي خدمت طيلة القرن العشرين كوصفة(سحرية ) بدت أكثر جاذبية لنقل الحداثة الى الشطر المتأخر من العالم ..في حينها بدى استيلاء الدولة على وسائل الإنتاج أو على معظمها حلا مثاليا لمعضلة تخلقت على هامش توسع نمط الانتاج الرأسمالي في دائرة التبادل( تضخم دور الكومبرادور في الأطراف ) ..أن تتحول الدولة الى رأسمالي صناعي يتولى مهام بناء القاعدة المادية للحداثة ( أنظر المغزى العميق لتوصيف لينين للقاعدة المادية للإشتراكية بأنها التصنيع الثقيل والكهرباء ),تلك هي الوصفة اللينينية التي انتفعت بها علنا أو مداورة شخصياتٌ كارزمية , صنعت التحولات الكبرى في مجتمعاتها . من صين ماوتسي تونغ الى سورية حافظ أسد. وعلى تكرار هذا الحل طيلة القرن العشرين تبرعمت أوهام ( عصر الانتقال الى الاشتراكية ).
.ليس هذا التدهور إلا المآلات النهائية ( للوصفة اللينينية) لمعضلات التحول المتأخر الى الرأسمالية .يشهد على ذلك إنفراط سبحة أنظمة رأسمالية الدولة تباعاً, تحت ضغط انتقال التوسع الرأسمالي من دائرة التبادل الى دائرة الإنتاج . لقد انعقدت فوق هذا التدهور أينما حل غيمة غباره, هابطة بمستوى الرؤية عند نخب وجمهور الحداثة الى ما يدفعهما للإلتجاء الى اليقينيات التي يقدمها الخطاب الديني على تنوع طرق النجات التي افترق اليها ..يشهد على ذلك أنزلاق قطاعات من جمهور الحداثة الى الخطابات الأصولية في العالم العربي – الاسلامي ..
لايمكن فهم هذا الارتفاع الصاروخي في فاعلية الخطابات الدينية بدون الأخذ بعين الاعتبار مناخ الاحباط الفكري –النفسي المخيم فوق المأزق الراهن لأنظمة رأسمالية الدولة,بمستوييه :
الاقتصادي-الاجتماعي و الفكري –الايديولوجي .أو بمعنى آخر : الأزمة و وعيها ..
لقد امتلأت خنادق الخطاب الاسلامي بكوادر الخطابات الحديثة على تنوع مشاربها الأيديولوجية.وهذا ما يفسر الخلل الخطير في موازين القوى بين خطابي التحديث والتتريث المتنافسان منذ قرنين على قطر الاجتماع السياسي العربي – الاسلامي ..
على هذا المزلق يتموضع المستقبل :من تقلص مساحة السياسة داخل دكتاتوريات رأسمالية الدولة إلى القضاء عليها(أي السياسة ) بالضربة القاضية , نتيجةلانفلات العنف الديني من عقاله وتفجيره الدولة كحاضنة للسياسة ..
هذا هو المآل إن لم تلم الخطابات الحديثة شتات حواملها الاجتماعية لقطع الطريق على إعادة تشغيل جدلية هابطة أمكن فرملتها طيلة القرنين الماضيين ..
سامي العباس