بين العصبيات التقليدية والحديثة أين يقعد المثقف ؟
تتفارق العصبيات الحديثة عن التقليدية في مسألتين :-
-التعبير بوضوح أو بغموض فصيح عن هوية اجتماعية من الهويات المتراكبة داخل البنية الاقتصادية –الاجتماعية .
- تحولها "أي العصبيات الحديثة" إلى مركب " أيديولوجي –سياسي " للعبور بين أنماط الإنتاج . أو بتعبير آخر إلى حامل ثقافي للانتقال, موازي للحامل الاجتماعي .
ليست تحولات منتصف القرن الماضي للشطر الحضري من العالم العربي إلا بنتاً لتلا قح مثمر بين تمايزات بنية اقتصادية –اجتماعية "ظلت لقرون عاجزة عن إنتاج تعبيراتها الإيديولوجية المناسبة" للانتقال إلى نمط إنتاج أرقى و: الأيديولوجيات"الليبرالية والماركسية والقومية " الوافدة في إطار عملية التثاقف التي تعمقت في الطور الإمبريالي الذي دخلته رأسماليات غرب أوربا في القرن التاسع عشر ..
حتى ما يبدو كعصبية تقليدية "عمودية " كالقومية العربية على سبيل المثال, تحول تحت التلاقي المنوه عنه أعلاه إلى " قومية- اشتراكية" . تشير من جانب إلى هوية الحامل الاجتماعي لعملية الانتقال : طبقة الفلاحين , والى سمت التغيير من جهة ثانية :القضاء على ما تبقى من علاقات إنتاج قبل رأسمالية في الريف " إقطاعية أو خراجية "..
في ما سبق محاولة لتفسير ما آلت إليه الأمور في العالم العربي طيلة النصف الثاني للقرن العشرين : ظهور الدولة الحديثة في مجرى تتلاقى فيه العوامل : الداخلية والخارجية المحفزة ..إلا أن الإطار الأ عرض لهذه العملية التاريخية يشكله التحول الكوني إلى الرأسمالية من ما قبلها ..أما ما تمخضت عنه النقدية الماركسية للرأسمالية " المعسكر الاشتراكي " فقد كان في واقع الأمر مسرب جانبي , أضطر إليه التحول المتأخر إلى الرأسمالية في ظل الإمبريالية ..على خلفية هذا الفهم للمشهد الكوني, أميل إلى القول أن ما نشهده من تجاذبات تخضع لها عملية استكمال بناء الدولة الحديثة في العالم العربي, تتموضع معضلاته في الوعي الذي تنتجه النخب العربية الحديثة على تنوع مدارسها الأيديولوجية ..سيما وان استكمال التحول الرأسمالي "و استكمال بناء الدولة الحديثة جزء منه ", يجري في ظل الإحساس بالتأخر..مما يضخم كثيرا من دور المثقف منتج هذا الوعي داخل هذه العملية كما أشار إلى ذلك عبدا لله العروي قبل ثلاثة عقود ونّيف "للتوسع في هذه النقطة يراجع كتابه الهام :العرب والفكر التاريخي ,فصل الماركسية والعالم الثالث "
المعضلة تتعمق بفعل هذا الميل الواضح " العربي – الإسلامي " لإعادة الاعتبار إلى الموروث الثقافي قبل إنجاز عملية نقده وإعادة موضعته داخل التراثات التي راكمتها البشرية في مجرى تحسينها لشرطها المعرفي ..
لكأن العجز البنيوي في هذا الموروث , والذي أنتج وحرس القعود" السياسي والاقتصادي والاجتماعي " للعرب والمسلمين في القرون الخمسة الأخيرة لا يكفي لخلخلة الثقة به وبإمكانياته ..
لقد ’وئدت المحاولات المبكرة لفك التطابق المحكم بين الشرط الأيديولوجي الذي بلورته الظاهرة الإسلامية , وبين علاقات الإنتاج الخراجية الموروثة عن الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية .."انظر في هذا السياق كتاب الخراج لأبي يوسف"..
أقصد بالمحاولات المبكرة: تلك التي باشرها المعتزلة منذ القرن الثاني الهجري في طرح الأسئلة المحرجة على التأويلات للنص المقدس التي أنتجها الفقهاء" مثقفو ذلك العصر " الملتحقون باستراتيجيات هذه العصبية القبلية أو تلك لبناء إمبراطوريات خراجية إسلامية ..
من هنا صعوبة التقاط الشطر التنويري من التراث وتوظيفه في السجال الدائر بين الحداثة ومعوقاتها .سيما والسجال يدور على مرأى ومسمع من جمهور موزع على أميتين "كتابية أو ثقافية " تسمحان له فقط بالتقاط الخطابات التقليدية وفك شفيراتها ورموزها بيسر وسرعة ..
أعود إلى بداية الحديث لأقول : يجري التترس في مجتمعات العالم العربي والإسلامي ضد الحداثة بتجلياتها في الخندق الثقافي ..يأخذ هذا التترس أشكاله في إعادة تشغيل العصبيات العمودية كروابط ثقافية غير مطابقة لتخوم الدولة الوطنية من جهة ومثبطة من جهة أخرى لديالكتيك البنية الاقتصادية – الاجتماعية الذي يجد تعبيراته:
- الإيديولوجية : في الخطابات "الليبرالية والماركسية والقومية ..الخ "
- السياسية : في " الأحزاب والنقابات ..الخ "
تحت هذا الضوء ينبغي للمثقف الذي يصنف نفسه حديثاً أن يرى المشهد العربي الراهن فلا تأخذه انفعالاته إلى الاصطفاف في غير خندقه ..
سامي العباس