محاولة للخروج من الفخ
((حاول أهلي إعادة إنتاج شرنقتنا القاهرية في الجبال اللبنانية . فمن يستطيع أن يلومهم على ذلك , إذا أخذنا بالاعتبار موقعنا الخاص المصدع بما نحن كسرات فلسطينية – عربية – مسيحية – أمريكية هشّمها التاريخ(.....) و عندما أدّ ت الإضطرابات في مصر ما بعد الملكية إلى تفكك البلاد من حولنا , حملنا آثارها أنّى ذهبنا , بما في ذلك إلى ضهور الشوير . هناك كان شارل مالك(...), رمزاً لرفض لبنان المسيحي مسايرة القومية العربية , و قراره الانضمام إلى المعسكر الأمريكي في الحرب الباردة و اعتماده لغة القتال و التصلب بدلاً من الحساب لإستدعاآت عبد الناصر المتصاعدة و من السعي إلى التكيف معها ... )) .
أقتطع هذا المقطع المطول من مذكرات المفكر الفلسطيني اللامع إدوارد سعيد (( خارج المكان )) لأجعله بوابة الدخول على المشهد اللبناني الراهن , لباقة من الأسباب :
1- شخصية إدوارد سعيد المماسة بشكل فكري – نفسي لأربع هويات : فلسطينية – عربية – مسيحية – أمريكية , مع ما يعطي تموضع إدوارد سعيد على هذا البرزخ الرباعي من قدرة على التقليب في جدلية على هذا المستوى المركب .
2- يظّهر هذا المقطع و بشيء من الغبش السحري ردود الأفعال التي أثارتها الموجة الثانية من القومية العربية ( بقيادة عبد الناصر و البعث ) بعد أن طّعمت نفسها بمكونين :
أ- لاهوتي ( إسلامي )
ب- اجتماعي ( اشتراكية )
3- الخوف المستعصي على كل أنواع المسكنات بما فيه آخرها (صندوق الاقتراع ) الذي تشبثت به الهويات الإثنية و الدينية والمذهبية حيا ل بعضها البعض .. والفشل المستمر في استحضار العلمانية كبوابة عبور إلى الدولة من ما قبلها .
4- الموقف النقدي لإدوارد سعيد حيال هوياتٍ أربعه , تتقاطع على هذا النحو الدرامي , وهذا التوازن الفكري المشبوب العاطفة ,حيال هويات وضعها الشرط العقلي الراهن للاجتماع في المنطقة بمواجهة بعضها البعض .
من بين الهويات الأربعة لإدوارد سعيد أجرب انتقاء إحداها لوضعه على الطاولة , غير غافلٍ عن نقاط التمفصل الكثيرة التي تربط بين هذه الهويات, ليس على الصعيد الشخصي لإدوارد سعيد , بل بما هي هويات جماعية شاءت لها الصدفة أن تتصادم كما كرات البليار , لكنها في تصادمها و ارتداداتها العشوائية محكومةٌ بهذا المآل الأخير , أن تهبط عبر الكوة الوحيدة للطاولة . لتهجع ساكنة بعد أن استنفذت الطاقة التي تزودتها من عصا اللاعب .
تشبه العبثية التي تستهلك بها كرات البليار طاقتها الحركية : العبثية التي تْصرّف بها الهويات المتصارعة للبشر شحنتها القتالية . و رغم أن الهويات بنيوياً تقتطع لبناتها من مقالع متنوعة : فالمركب السلالي , أو الاندماج الثقافي , أو شبكات تبادل المنافع المادية , تتشارك المهام, أو تعمل على نحو منفرد, لبناء هذه الهوية أو تلك , إلا أن الملاط الذي يشد اللبنات ,و يمسكها من التداعي , ويموه على التخوم فيما بينها ترتبط فاعليته بمستوى لزوجة القسط المنحل من المكونات الأولية التي سمحت بها التجربة السياسية الخاصة بالجماعة إياها .
أهمية تجربة ادوارد سعيد كما يرسمها في خارج المكان, المذاق التراجيدي للمآلات التي أفضت إليها جدلية هوياته الأربعة..لكأنه يختصر على نحو مخبري مجريّات مسرح , تمددت خشبته حتى أصبحت خارجها..وهو ما أوحى لادوارد سعيد باعتقادي عنوان كتابه .أو لعله وهو يحاول أن يرى المكان ,اكتشف استحالة ذلك بدون أن يخرج منه.. كالجندي لا يستطيع رؤية المعركة وهو فيها.
إلا أن السؤال يظل يطرح نفسه :هل افلح سعيد في الخروج؟؟..أشاطر فالح عبد الجبار تساؤله(1) ((كيف يتأتى لسعيد أن يفك عقله من اسر الهوى؟..كيف يمكن له أن يطلق عقله في هذا الهوى الآسر؟!!..))
تلك هي معضلة" المثقف العضوي" بمفهوم غرا مشي..أن يكون جنديا وسط المعركة , وأن يستطيع أن يراها كما لو انه خارجها. كيف لسعيد أن يحتفظ بتوازنه الفكري- النفسي عندما تتصادم هوياته المتعددة عند كل إنعطا فة تضطر إليها عربة التاريخ في المنطقة؟؟
كيف للمتصّدع أن يحتفظ بتماسكه تحت هذا المنسوب العالي من الضغط على مكوناته ؟؟
أرى في تجربة إدوارد سعيد سلسلة متصلة من المساومات, لجأ إليها عقله الجبار لمصالحة هوياته .. مشيرا بذلك لاجتماعه المركب إلى الاتجاه الذي يجب أن تتثبت عليه إبرة البوصلة, للتملص من الشرط الراهن ..
يترنح الاجتماع في المنطقة" ولبنان عينة من تفاقمه المزمن " كما ترنح ادوارد سعيد بين الدوائر الأربعة لهوياته ..
و..كلاهما : ادوارد سعيد, واجتماعه المركب , سفينة تشق طريقها وسط العواصف. مضّطرة إلى أقلمة وضعها مع هذه الموجة أو تلك,لتفادي المصير الذي ينتظرها إن انتصرت فيها الحماقة على التعّقل..
سامي العباس – sameabbas@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق