النقاب موقف فكري أم احتجاج سياسي ؟
" بالنسبة للكاتب لا يتكلم أحد عن النقاب إلا إن كان تنطعا أو كيدا للنظام. ففي نظره يستحيل أن يتم ذلك من منطلق فكري .. بل لابد أن يتم حصرا من منطلق طائفي أو سياسوي. يظن الكاتب أن هذا التصنيف يفضح معارضيه .. لكنه أيضا يعبر عن فرضياته هو. وكان الأجدى به أن يدشن حوار فكري في المسألة بدلا من التحريض ضد من يعارضهم"
هكذا يفتتح أمير غندور مداخلته المطولة على جري عادته مع النصوص التي يجرب عليها مهاراته في التصويب ..وهو إذ يتنقل بمهارة من الرمي رشاً إلى الرمي دراكاً, يمارس إستراتيجية إعماء الخصم بغزارة النيران ,على مذهب المثل المصري "العيار اللي ما يصيبش يدوش " مستفيداً من سعة إطلاع" ثقافي " يتميز بها, وقدرة على ارتجال الأفكار وذرابة قلم يميل به كأبطال السير الشعبية على الميمنة فيكشفها ويميل به على الميسرة فيكشفها أيضاً, كل ذلك ولا ينشف له مداد ولا تجف له قريحة ..لكنه إذ يتهم عمر قدور بالطائفية فإنه يهبط بالنقاش إلى مشاجرة نسوان حيث الشتيمة هي :مما تضعه الصدفة على اللسان ..
عندما يستعرض عمر قدور في مقالته على موقع الأوان - الاربعاء 28 تموز (يوليو) 2010 تحت عنوان : السّجال حول النقاب في سوريا. ردود الأفعال التي أثارتها القرارات الأخيرة في سورية حيال النقاب والمنقبات ,ويصنفها في خانة الإستثمار السياسي في الدين الذي يجنح إليه منافسون سياسيون غسلوا أيديهم من قدرة الأيديولوجيات االوضعية على إيصالهم إلى موقع المشاركة في منافع السلطة ,فهو يسمي الأشياء بأسمائها ..
وإلا ما معنى هذا الإستيقاظ المفاجئ على الهوية الطائفية لنخب طالما رفعت عالياً هذه الأيديولوجية الوضعية أو تلك .وناضلت عقوداً تحت رايتها للوصول إلى سلطة ترى في الوصول إليها وسيلة لقيادة مجتمعاتها من الجهل والتخلف والفقر إلى شرط بشري أفضل؟..
ليست الإنتكاسة الراهنة باتجاه الخطابات الطائفية "عارية أو مبطنة "التي يجنح إليها بعض من الناشطين السياسيين في سورية إلا وقوع في الفخ اللبناني والعراقي , حيث تحولت الكيانات الطائفية الموروثة تاريخياً في الدولتين إلى غيتوهات تتبادل التكفير والعنف, وتدمر ما بقي من جسور أنشأتها تجربة التحديث العربية في القرنين الفائتين .. يقول الأستاذ غندور : "المقال الحالي يعبّر بوضوح عن خوف العلمانيين السوريين من التقدم الملحوظ للأطروحات الإسلامية لكنه للأسف يعبر أيضا عن عجز العلمانية السورية عن ملاقحة ومقارعة الإسلاميين السوريين بذات النفس الفكري الذي بدأ الإسلاميون يتفوقون به على العلمانويين"
الطريف في هذا القول أن التحاق قطاعات واسعة من العلمانيين السوريين بطوائفهم في مجرى الصراع السعودي –الإيراني على إحتلال الفضاء الديني في سورية ,يجري تصويره "كتفوق (فكري ) للإسلاميين السوريين على العلمانيين السوريين " .لكأن هذا التفوق( الفكري )لايسند ظهره إلى البترودولار وإلى اللعب بالتدين الفطري للعامة وإلى الحصار المضروب على النشاط العلما ني سواء أخذ طابعاً سياسياً أو ثقافياً من قبل نخب في السلطة تعمل على تأمين مستقبلها في قابل الأيام ..ياله من تحليل منصف وموضوعي .ولا ينقصه سوى أن يتحفنا الأستاذ غندور ببعض من أدبيات الإسلاميين السوريين لعلنا نعيد النظر في موقع أقدامنا فيكسب فينا حسنة ..سيما أن ما يضمره هذا التحليل هو توجيه التهمة بشكل موارب للعلمانيين السوريين بأن موقفهم من الإسلاميين يموضعهم في خنادق السلطة : مقاتلون بالمجان وكتبة تقارير علنية بالمناضلين الإسلاميين .
يقول غندور في تعليقه " إن الحديث عن (سجال) حول النقاب في سوريا يثير الضحك أكثر مما يثير التفكير...فما معنى كلمة (سجال) بالضبط في السياق السوري؟ هل لها أي معنى. فالسجال يفترض فيه وجود حوار في المجال العام بين مواطنين وأعضاء مجتمع مدني فهل هذا معنى (السجال) في سوريا؟ أم أننا نتكلم عن محض (إلهاء) أو (تأليب) لأطلال مجتمع مدني؟ هل يظن الكاتب أنه بمقاله يثير حوار أو يشارك في سجال؟؟ أم أن المسألة لها حسابات مختلفة تماما. أليس الأمر محض تمرير لسياسات من منطلقات محددة ومعروفة ومسبقة بحيث لا يصير (السجال) أو (الحوار) سوى محض (دعاية موجهة) أو حتى ما هو أسوأ …."
في رأي غندور أن السجال لايستحق هذا الاسم إلا إذا دار في المجال العام بين مواطنين وأعضاء في مجتمع مدني ..أي أنه علينا أن نلتزم الصمت حتى نصبح مواطنين وأعضاء في مجتمع مدني .لا أجد رداً على هذا المنطق سوى هذا المثل الفلاحي :عيش ياكديش حتى يأتيك الحشيش ..
وهو يرى في هذا السجال "محض (إلهاء )أو (تأليب) لأطلال مجتمع مدني .وينبغي على العلمانيين ألا يتحولوا مطية لتمرير سياسات محددة ومعروفة مسبقاً .تحّول السجال إلى محض دعاية موجهة أو ما هو أسوأ" ..
يضمر هذا الخطاب مايجهر به الإسلاميون : أبلسة النظام بالمعنى الديني للكلمة ,وتحويله إلى شرٍ محض ..لايرى هذا الخطاب النظام كإطار سياسي لإدارة المصالح يخضع للضغوط من هنا وهناك .وما السياقات التي يذهب إليها إلا حصيلة مؤقتة لتوازن القوى بين جماعات الضغط الإقتصادية-الإجتماعية التي يتركب منها ويصدر عنها . .وأن الفعاليات العلمانية التي ترتضي الإستقالة من وظيفتها في الدفع نحو ما تتصوره الأفضل لمستقبل الأجيال القادمة سترّحل مهماتها إلى عاتق هذه الأجيال .. إن التلاوين الأيديولوجية الحديثة التي يحتفظ بها النظام هي من مكتسبات النخبة السورية الحديثة التي تسنمت مسؤولية الخروج بسورية من التخلف القروسطي .والنظام إذ يتخلى عنها تحت ضغط تمشيخ بعض ٍ من نخبته ,أو تحت الضغط الذي يمارسه عليه منافسون سياسيون يحتطبون لمعاركهم معه من غابة الفضاء الثقافي الإسلامي , فإن الفاتورة سيجري دفعها من مستقبل أجيالنا القادمة ..لقد عمل الخطاب السياسي للإخوان المسلمين السوريين على نزع الشرعية الدينية عن نخبة السلطة منذ الستينات ,عبر تصويرها بداية كمجموعة من الملحدين. ولاحقاً كتحالف للأقليات الدينية مع بعض العملاء من أبناء الأكثرية السنية ..وقد تابع التيار الإسلامي لخمسة عقود الكز على هذا الخطاب .وفي مجرى انسداد خيار رأسمالية الدولة في المستويين:الاقتصادي والسياسي -وهو انسداد ذو طابع عالمي- تعمقت أزمة النخبة الحاكمة السورية. وتقلصت قاعدتها الإجتماعية . ووجد منافسوها السياسيون أقصر الطرق لإسقاطها الإستعانة بالقاموس الأيديولوجي للإخوان المسلمين ..لقد بدأ علمانيون:قوميون وشيوعيون ..إلخ .. من مختلف الطوائف , الإستعارة من هذا القاموس على استحياء .ومع الوقت انفجر شرش الحياء على نحو جماعي في لحظة من غياب الوعي على خطورة ما ستفعله لغة هذا القاموس بالجسور التي شيدتها الطوائف فيما بينها ..وها نحن أمام استحقاق وضعنا في مواجهته هيمنة الإسلاميين على المخيال الديني للطوائف لتوظيفه في المعارك السياسية ..
على العلمانيين ضبط تنافسهم مع نخب السلطة في سورية وباقي دول العالم العربي والإسلامي في الحقل السياسي .هذا يترك الأفق مفتوحاً على تحسين محتويات الدولة الموروثة من المرحلة الكولونيالية ..أي توسيع رقعة المشاركة السياسية وفك تداخل السلطات وتدعيم الشفافية ومكافحة الفساد ..إلخ ..غير ذلك يندرج تحت ما يسمى "بفقه النكاية " ينزلق إليه علمانيون سبق أن انزلق إليه نظراء لهم في إيران السبعينات . فنقلوا مجتمعاتهم من تحت الدلف إلى تحت المزراب .
سامي العباس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق