من الماركسية –اللينينية إلى ماركسية بلا ضفاف
في إطار النقاش مع سلامه كيله –والذي كانت مقالته في جريدة الأخبار اللبنانية "الأحزاب الشيوعية العربية علينا أن ندفن موتانا " بمثابة افتتاحيته , أرغب في توضيح بعض النقاط التي ُيستنبت على غموضها سوء الفهم وربما سوء الظن .سيما وأن هذا الأخير قد يكون أحياناً من حسن الفطن .فليست كل دوافع النقد الممارس على الماركسية -اللينينية لوجه المعرفة بل فيه ما فيه من النوازع والإنحيازات التي تعصف بالتجرد المفترض للمثقف. و تهبّ من تمايزات البنية الاقتصادية -الاجتماعية التي زرعت الماركسية فيها فوانيسها لتضوي على الجدل الذي يحكم سيرورتها ..
ليس كل النقد الممارس – لوجه الله تعالى – كما يقال "أي بريء من اختلاط النوازع المعرفية بنوازع الأمزجة والإنحيازات لأفكار مسبقة أو مصالح وامتيازات تحققها سلطة المعرفة ".لكننا لا يمكن تحت هذه الذريعة تسليم العقل إلى يقينيات يقل مع الوقت تصديقه لها معتمدين على رسوخ وقرها في القلب .. أميل إلى توصيف الماركسية- اللينينية ومشتقاتها في بقية البلدان التي سلكت طريق التحول الرأسمالي في المرحلة الإمبريالية - بما خضعت له سياقات هذا التحول من إكراهات وآلت إليه أيضاً من نتائج - كتجلي روسي لظاهرة المثقف الألما ني تحول- في الشروط المتكررة للتحول تحت شرط التأخر- إلى ماركسية أرثوذكسية تسلط ضوءاً شحيحاً على طريق جانبي يسلكه التحول المتأخر إلى الرأسمالية , تحل فيه الدولة المستولى عليها من قبل نخبة مثقفة ذات نزوع رسولي - يلتف حول خطابها الإيديولوجي حامل اجتماعي يجد في هذا الخطاب آماله وأحلامه بالخروج من شرطه الاقتصادي /الاجتماعي- محل برجوازيتها المحلية الراضخة لشروط التبادل اللامتكافئ في عصر الإمبريالية .والعاجزة بالتالي عن النهوض بالمهام التي نهضت بها مثيلاتها أثناء غياب الشرط الامبريالي .
حتى هذه النقطة أظنني لا أختلف مع سلامة كيله كما وصل إلي من نصه الأخير . وبمعزل عن نفيه أي صلة لفهمي هذا باللينينية, كأن هذه الأخيرة قد سلمته مفتاحها ورمت بقية النسخ في البحر !! " لكن بدءاً أشير إلى أن اللينينية كما يفهمها سامي لا تمت إلى اللينينية، حيث أنه يعتقد بأن لينين استنتج بـ "إمكانية التحول الاشتراكي" على خلفية انسداد الطريق على التحول الرأسمالي في الأطراف بقيادة البرجوازية (وهو هنا يوافق لينين على وجود هذا الانسداد). لكن لينين لم يطرح التحول الاشتراكي رغم دعوته لاستلام البروليتاريا السلطة في أكتوبر سنة 1917، بل أكد على أن الهدف ليس تحقيق الاشتراكية بل تحقيق المهمات الديمقراطية، لأنه كان يعي عمق التخلف الذي تعيشه روسيا. "
أعيد طرح السؤال : أليست هذه المهام الديمقراطية من صلب عمل البرجوازية ؟.وأن امتناع إمكانية النهوض بها من قبل هذه الأخيرة بفعل الشرط الإمبريالي - كما ساجل لينين حول هذه المسألة ماركسيي عصره - كان في خلفية دعوته البروليتاريا إلى استلام السلطة ؟
أنا لا أجادل في فهم لينين لشرط التأخر. ولا في دعوته لانتزاع السلطة السياسية من برجوازيات محلية يتحكم بآفاق مشروعها للتحول الرأسمالي المركز الإمبريالي .أجادل في توصيف هذه العملية التاريخية التي تنهض بها الدولة بأنها تفتح على استبدال نمط الإنتاج الرأسمالي بنمط أنتاج أرقى هو نمط الإنتاج الاشتراكي .أي أن ما تم تنفيذه في الإتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية والصين ..الخ تحت راية الفهم اللينيني للماركسية"الماركسية –اللينينية " لم يكن كما تم تصويره انتقال إلى نمط الإنتاج الاشتراكي بل كان محاولة لحل معضلة "التحول المتأخر في ظل الإمبريالية " بإحلال الدولة محل الطبقة في قيادة عملية التحول الرأسمالي مع ما يلزم لهذا المشروع من تضخيم لدور الإرادة الثورية يصل في بعض الحالات إلى طلاق عقلي مع الشرط الموضوعي ,وتالياً مع سياقات العقل المعرفية ..لقد تمخض حرق المراحل على خلفية التورم الشديد للإرادة الذي أصاب النخب المثقفة الثورية المزودة بالماركسية اللينينية في كامبوديا والقرن الأفريقي وجمهوريات خط الإستواء , عن الكثير من" الفانتازيا الاشتراكية". ولم يكن ذلك سوى تجليات قصوى لمرض المثقف الألما ني ..
لا أدري ما سيكون موقف سلامة من "فهمي " النقدي للماركسية - اللينينية كما وضعت في الاستعمال الإيديولوجي من قبل الأحزاب الشيوعية العربية. وإن كان قوله " فسواء أسميت التطور بالتطور الرأسمالي من خلال الدولة أو لم تسمه فقد حدث التطور، وهذا يعني بأن التصور الذي طرحه لينين حقق الهدف منه، وهو نقل روسيا إلى الحداثة. فإذن، أين وجه الاعتراض؟ هل انطلاقاً من "التشدد" في الميل الاشتراكي الذي عادة ما يوصم هذه التجارب بأنها تجارب رأسمالية دولة فيرفضها؟ أم من موقع الرأسمالي؟ وبالتالي أين وجه الاعتراض هنا؟ ما يمكن أن نستنتجه هنا هو أن الهدف هو تخطيء لينين ليس أكثر" يوحي بأن ما يهمه فقط : تفحص سريرتي على طريقة تكفيريي هذه الأيام .ليعرف هل ينبع اعتراضي من موقع رأسمالي أم من تشدد اشتراكي ؟
وعلى خلفية من التدين اللينيني أكثر تشدداً وإقصاءً , كتب رشيد محمود على الفا يس بوك مطولة من الشتائم ردا على حواري مع سلامه كيله. أنصح بالإطلاع عليها للتعرف على المناخ العقلي داخل غيتو يساري ينضم إلى مصفوفة الغيتوات المذهبية والطائفية التي تنزلق إليها مجتمعات المنطقة بلا مكابح .."الرفيق" رشيد محمود لينيني حتى نهاية أظلافه. وقد أصيب بصدمة مما احتواه مقالي من" هرطقات منشفية" فكتب بصيغة الجمع تفخيماً لنفسه فيما أظن تحت هذا العنوان : وكنا إعتقدنا أن المنشفية دفنت إلى الأبد..
على كل حال لا أريد أن أفقد حسن الظن بحسن تهذيب سلامه كيله, مع ضرورة لفت نظره إلى ضرورة إظهار المزيد من التواضع خانه في حواره معي مرتين على الأقل, عندما أشار إلى فشلي في فهم اللينينية أو مؤلفات عبدالله العروي ..ذلك أن أحكام القيمة هذه ينبغي أن تترك للقراء . وأجد من المناسب في هذا المقام القول أن ماوصل إلي من اسهاماته الكتابية لم يبدد انطباعاً تشكل لدي أن خميرته الثقافية لم تتعدى المعجن السوفييتي .ولا يبدو أنها على صلة بالثراء المعرفي الذي راكمته المدارس الماركسية" منهجية ,عقدية ,أنسيه ,ليبرالية " التي استعرض شروط تمايزاتها بكثير من الدقة والفطنة المفكر المغربي عبد الله العروي في مؤلفه المهم "العرب والفكر التاريخي- فصل:الماركسية ومثقف العالم الثالث.
علينا كمعنيين بامتلاك ما وصل إلينا من نواتج القفزات في المعنى التي تحققت خارج الفضاء الثقافي : العربي- الإسلامي, أن نقرن الاطلاع بالنقد, لأن التملك المرجو للمعرفة لايتم بدون النقد كما يقول لاكان .ومن نافل القول التذكير بأن النقد لايعني التسفيه ورمي المنقود في سلة المهملات , بل يعني فيما يعنيه فهم الشروط التي أحاطت بعملية ولادة هذا المعنى أو ذاك .هكذا يتم مع الوقت توطين المعرفة ,وينقلنا من خانة المستهلك للمعاني كما هي الحال إجمالاً , إلى خانة المشارك في إنتاج المعرفة و تحسين دربتنا على الاستثمار المنتج لها في فك الإستعصاءات وإضاءة المشكلات التي تعترض سيرورة تحسين الشرط البشري لمجتمعاتنا ..ليس النقد الموجه إلى اللينينية إلا في إطار تملكنا لها كقراءة مميزة في دفاتر الماركسية .وهي لأهميتها فقط تستحق النقد. وإلا لكان مصيرها سلة مهملات الفكر الإشتراكي ..وهي"أي اللينينية " من زاوية تحولها إلى زوادة أيديولوجية للأحزاب الشيوعية العربية وغير العربية .وفي ظل الأزمة الراهنة-الفكرية والسياسية- التي تعصف بهذه الأحزاب ,تستحق منا التقليب النقدي في صفحاتها, لإضاءة تخوم قدرتها على الإستجابة للأسئلة المستجدة , التي تطرحها سيرورة التحول الرأسمالي التي باشرت الدخول في مرحلة جديدة هي مرحلة التوسع في دائرة الإنتاج تحت إكراهات الشروط الجديدة التي تخلقت في المركز : التلوث وارتفاع كلفة الإنتاج بفعل المكتسبات التي حققتها الطبقة العاملة على جبهتي الأجور وساعات العمل ..إلخ .تستحق هذه المستجدات التفكير بها لا رميها في خانة اللا مفكر فيه على عادة الأنساق المعرفية التي تتحول إلى أيديولوجيا .
سامي العباس
28-11-2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق