الجمعة، 3 ديسمبر 2010

تعرفت على دارون في المدرسة !!

تعرفت على دارون في المدرسة !!


كان ذلك في كتاب البيولوجيا المخصص لطلاب الشهادة المتوسطة للعام 1968.أذكر أن نظريته  ’عرضت يومها في سياقٍ أحتلت فيه موضع الأساس لنظرية النشوء والإرتقاء الحديثة .. لاأحتفظ الآن من ذلك بغير إنطباعات ينبغي معالجتها بحذر  الأركيولوجي  لإعادة رسم مشهد التعليم الحكومي في سورية  الستينات  ..أقوى  هذه الإنطباعات المتبقية, ما رسّبه الخوف الذي ركبني   خشية أن يفلت من ذاكرتي  الفا رق بين النظريتين : نظرية دارون في النشوء والإرتقاء  والنظرية الحديثة . كان ما يقض مضجعي أن يأتي هذا الفارق كسؤال مصيري في  الإمتحان النهائي ..وعلى عادتي في تبديد  الإرتياب - قبل أن يتحول هذا الأخير  إلى موقف  نقدي من حصار البديهيات الذي أحكمته حولنا ثقافتنا الدينية - توصلت إلى تعليق هذا الفارق على شماعة  المناورة التي يضطر إليها  التعليم الحكومي  الحديث لتمرير رسالته التنويرية تحت أنف   الأكليروس الديني  الذي بدأ يستيقظ آنذاك على البلل وهو يصل إلى ذقن مقدساته ..كانت تلك السنوات هي ذروة ما وصلته النخبة العلمانية الحاكمة من جرأة على تعكير مياه  اليقينيات الراكدة  : في الإقتصاد وفي التراتب الطبقي وفي اللاهوت :اليهمسلامي بتعبير أركون ..وكانت مقالة لابراهيم اخلاص  وصف فيها الله "بدمية ينبغي  وضعها في متحف التاريخ " و نشرتها له  مجلة "جيش الشعب"  التي يصدرها مكتب الإعداد العقائدي في وزارة الدفاع السورية قد أثارت زوبعة  دفعت النخبة الحاكمة آنذاك  للإختباء وراء إصبعها ,  وتعليق المقالة وصاحبها  على مشجب المؤامرة الصهيونية .. لم تتجاوز العلمانية - في أفضل حالاتها داخل ماوصّف آنذاك بالشطر  التقدمي من  النظام العربي-  الكوكتيل المصري الشهير "لبن ,سمك ,تمر هندي " ..لكن الكوكتيل إياه كان واعداً..ففي ستينات القرن الماضي  وخصوصاً بعيد  هزيمة 1967 بلورت مجتمعات المنطقة راديكاليةً "علمانيةً" رمت القفاز في وجه غرب أنكلو سكسوني بدا في العين العربية كعاهرة سال مكياجها ..وأعقب ذلك   تصعيدٌ للعلاقات مع المعسكر الإشتراكي .فتركت البعثات التعليمية و ترجمات دار التقدم آثاراً واضحة  على عقل النخبة الحاكمة وبطانتها من التكنوقراط  الإداري والعسكري  . و’طّعمت  الفذلكات الأيديولوجية للأحزاب القومية –الإشتراكية  بجرعات متفاوتة  من الماركسية- اللينينية .و خفت القيود على الأنشطة الدعوية للأحزاب الشيوعية العربية ..في سورية آنذاك طال التغيير مناهج التعليم المدرسية مما أعطى للداروينية موطئ قدم لازالت آثاره باقية في الأجيال التي تلقت تعليمها في المدارس الحكومية آنذاك  ..وكان تداول مؤلف دارون"أصل الأنواع " الذي ’ ترجم في لبنان يجري على نطاق واسع في أوساط الكوادر الطلابية  البعثية والشيوعية والقومية السورية  المتنافسة ليس على السلطة فقط بل و على الخروج من حصار الرؤية الدينية للعالم  ..
بهذا المعنى ساهمت الداروينية - التي سمحت النخبة الحاكمة آنذاك  بتسريبها إلى الكتب المدرسية- في شحن الأجيال الجديدة بالأسئلة التي تعيد تفحص أسطورة الخلق المشتركة للأديان السماوية ,التي  ’سجن فيها المخيال الجمعي لسكان المنطقة .
الآن- وبعد مضي أربعة عقود على ذلك- فتشْت’ عن دارون في الكتب المدرسية  , فلم أجد عنه  سوى سطرين في  آخر صفحتين من  مقرر البيولوجيا لطلاب السنة الأخيرة في التعليم قبل الجامعي ..سطران تم دهنهما بما يكفي لكي يزحط عنهما عقل الطالب دون أن يرتج له يقين بثوابت السلف الصالح .. مع ذلك هناك من يدير عينيه متعجباً في سوريا من هذا النكوص الجماعي نحو دين العجائز..لقد نهض العقل من رقاده بالتعليم الحديث ..وعندما كان الكتاب المدرسي ينهض بمهمة توسيع المدارك كان هرم بزل الثروة المشكل من الباشوات والبكوات والأفندية  يصرف بأسنانه غيظاً مما يجري .ذلك أن التعليم الحديث بعد أن تحولت المدرسة الحكومية إلى عموده الفقري أصبح أداة لكسر التراتب الطبقي الموروث من المرحلة العثمانية . ويخطئ من يظن أن الوشائج مقطوعة بين الثقافة التقليدية  الراكدة وبين نظام  بزل الثروة ..فكل من الطرفين يشد أزر الآخر. والعقود الستة الأخيرة من عمر التحولات الإقتصادية –الإجتماعية في العالم العربي تفضح إلى أي التوظيفات السياسية قد انحازالوعي الديني ..
لم تحظ الداروينية بالقبول - رغم أن إعادة اكتشاف قوانين مندل في القرن العشرين واكتشاف بناء الشفرة الجينية وتقدم البيولوجيا الجزيئية، قد نقلها من حيز النظرية إلى حيز الحقيقة المخبرية .. فقد  أتاح تقدّم علميّ الوراثة والإحاثة استنباط تطوّر مختلف الأنواع، العلاقة بينها وأصلها المشترك والنقاط التي فرقت بينها-ذلك أن اسطورة الخلق التوراتية لم تفقد بريقها حتى في المجتمعات الغربية التي قطعت شوطاً أطول على طريق الخروج من الرؤية الغيبية للكون.
أما في عالمنا العربي والإسلامي فالطريق طويلة .لايختصرها إلاإعادة الإعتبار للكتاب المدرسي  لكي يستعيد دوره كوعاء لإنضاج ملكة الفهم ..وإلا فإن جامعاتنا ستواظب على توزيع شهادات طنانة في روبابيكا عقلية يعاد تدويرها ..

سامي العباس   



هناك 7 تعليقات: